lundi 3 juin 2013

معركة شقحب


في اليوم الثاني من رمضان سنة اثنتين وسبعمائة للهجرة ( المُوافق للعشرين من نيسان ( أبريل ) سنة 1303م ) وَقعَت هذه المَعرَكة بين المسلمين والمَغول بين عَسكَر السلطان الناصر، وعسكر قَطْلُوشَاهْ. وقد عرفت هذه المَعرَكة بِاسمَين هما : (موقعة مَرْج الصُّفَّر) و(معركة شَقْحَب) وكان عدد الجيش المَغوليّ الذي اشترك في هذه الموقعة كبيرًا يُقدّره بعضهم بخمسين ألف مقاتل وهناك من يقول : إنّ عَدَده يصل إلى مائة ألف. والفرق بين الرقمين يدل على أن التقدير غير دقيق، لكن الشيء الواضح من ذلك ضَخامة عدد ذلك الجيش، وقد كان في عِداد هذا الجيش فِرقَتان من الكَرْجِ والَأرمَن. أما جيش المسلمين فلم يذكُر المُؤرِّخون له عددًا، وإن كان يُرجِّح كثير من الباحثين أنه كان كبيرًا أيضًا، اعتمادًا على قرائن عِدّة. ولا بد من دراسة معركة شَقْحَب على أنها حلقة من سلسلة الهجمات المَغوليّة على ديار الإسلام.



سبب اجتياح المغول لبلاد المسلمين

لقد كان السبب الذي حرّك المَغول في مَعارِكهم واحتلالاتِهم واحدًا ، سواء كان فيما سَبَق سقوط بغداد أو كان بعدها. فمن المعلوم أنّ بلاد المسلمين قد تَعرّضت إلى أَخطار من جهة أوروبا النصرانية التي جيّشت الجيوش وسيّرت الحَمَلات الصليبية تِلو الحملات وجاءت هذه القُوى الباغية المُعتدية إلى ديار المسلمين، فعاثَت في الأرض فسادًا، وأَهلَكت الحَرث والنَّسل، وانتهى بها الأمْر إلى أن تُقيم في قَلب العالم الإسلامي دُوَلا، منها إمارات الرَّها وأَنْطَاكِية وبيتُ المَقدِس وطَرابُلس. واستمر وُجود الصليبيّين في بلاد المسلمين قُرابة قَرنين، وقد أَدرَك المسلمون خُطورة بقاء هذه الإمارات الصليبية في بلادهم واستيقظ وَعيُهم فقامت حركة الجهاد، يُذكّيها علماء الأمة ومُصلِحوها وتَجاوَب الناس معها فكان توحيد الجبهة الإسلامية غَرضًا مُهمًّا وكان لنور الدين الشهيد محمود زِنْكِي فضلٌ كبير في تحقيق ذلك. وجاء من بعده صلاح الدين الأَيّوبِي، فاستطاع أن يَقطِف ثمرة جهاد الرجل العظيم نور الدين، وانتصر في معركة حِطِّين، واستطاع أن يُطهِّر مُعظَم بلاد الشام من رِجس الصليبيّين. واستردّ المسلمون بيت المَقدِس ، وكُلَّ ما كان بأيدي النصارى من قِلاع وحُصون، ولم يبق للصليبيين إلا جُيوب يَسيرة في أَنْطَاكِية وطَرابُلْس والساحل بين صُور ويافَا.

في هذا الوقت بالذات ظهرَت حركة المَغول في أقصى الشرق بزعامة جَنْكِيزْ خانْ. ولقد ثبت بأدلّة قاطعة أنَّ حركة المَغول هذه كانت بتحريض وتخطيط من الصليبييّن المَهزومين من دِيار المسلمين، فقد كانت هناك اتصالات بين الفَريقين قبل سنة 656ه (1258م)، فقد أوفد البابا أنوسنت الرابع رَجلا في مَهمّة سياسية إلى مَنْغولْيا سنة 642ه (1245م). ثم أوفد لِويس التاسع المعروف ب (النَّاسِك) بعد ذلك بثلاث سنوات رَجلا آخر. وقد كتب الدكتور مصطفى طه بدر كِتابًا عنوانه : (مغول إيران بين المسيحية والإسلام) ، وقد قَرّر في هذا الكتاب تعاوُن النصرانية البابوية مع المَغول ، في اجتِياح بلاد المسلمين لمَصالِح النصرانية ، ومن أجْل انتزاع الأراضي المُقدَّسة عندهم من أيدي المسلمين، وأَثبَت ذلك بأدلة قوية.

إنّ الوجود النصراني في بلاد الشام تضَعضَع بتوفيق الله ثم بسبب اليقَظة التي بدأت تَظهَر ، ثم بسبب وُجود بعض العَمالِقة من رِجالاتِهم السياسيّين من أمثال نور الدين الشهيد وصلاح الدين الأَيّوبي، ثم بسبب قيام عدد من رجال الفكر والعلم والتَّوجيه بواجبهم. وانْهار هذا الوجود النصراني بعد معركة حِطّين وغيرها. عند ذاك فكّر النصارى بأُسلُوب أكثرَ قوةً وأشدّ عُودًا وأَشنَع وَحشيّة وبربَريّة، فلم يجدوا إلا التَّتار، يقول الدكتور مصطفى طه بدر : (ومع أن المَغول هَدّدوا المسيحية في أوروبا كما هَدّدوا الإسلام في الشرق، واجتاحوا أراضيها في روسْيا وبولَنْدا، ووصلوا حتى هَنغارْيا وقَتلوا ونَهبوا وسَبَوا وأَنزَلوا الرُّعب في قلوب المسيحيّين هناك، إلاّ أن المسيحية ما لبِثَت غير قليل حتى صَحَت من غَفوَتها وزالت عنها الدَّهشة التي تَملّكَتها وفَارَقها الخوف والفزع، وفكّرت في الاستفادة من المَغول، خُصوصًا بعد أن رأت أن تَيّارهم قد وقف ولم يستقرّ لهم حالٌ إلا في رُوسْيا. وقد اتجهت المسيحية نحو المَغول، راغبةً في استِمالَتهم، وعقْد أَواصِر الصداقة معهم لكَسبِهم إلى المسيحية أولا وللاستعانة بهم ضدّ أعدائها المسلمين ثانيًا.

والتاريخ يَذكُر لنا الشيءَ الكثير عن العلاقات التي قامت بين حُكّام المَغول الأُوَل من أبناء جَنْكِيزْ خانْ وبين الدول المسيحية على اختلافها، تلك العلاقات التي كان أثرها رِحْلات يُوحَنّا الكربيني ووِلْيَم الروبريكي.

وقال أيضًا : أما العلاقات بين البَابَوات والتَّتَر فكانت مستمرة ولم تنقطع طول مدة حُكم التَّتَر في إيران. وقد كان الرُّسُل يتردّدون من وقت إلى آخر بين بَلاط البابَوات وبَلاط التَّتَار، ويحملون الرسائل التي تَفيض بمظاهر الحب والعطف المُتبادَل. ويقال : إن البابا إسْكَنْدَر الرابع أرسل إلى هُولاكو خَانْ مؤسس دولة الإِيلْخَانات كتابًا مُؤرَّخًا في سنة 1260م - 658ه ، وقد ذكرنا في صَدر هذا المَقال أن الاتصالات بدأت مُبكّرة قبل هذا التاريخ ، إذ أرسل البابا أَنُوسِنْت الرابع رَجُلا إلى زعماء المَغول في سنة 642ه (1245م).

وقال الدكتور مصطفى طه بدر : (ولا يختلف المُؤرِّخون في أقوالهم عندما يَتناوَلون مسألة عَطفِ الإِيلْخَانَات على المسيحييّن من رعاياهم ، ويُؤيّد بعضهم بعضًا. ويتضح من أقوالهم أن هُولاكُو كانت له زوجة مسيحية وأنه بسببها عامل المسيحيين من رعاياه معاملة حسنة. ولمّا فَتَح بغداد أعفى أهلها المسيحيين من القتل . . ولمّا فَتَح المَغول في عَهده دِمَشق ودَخلوها، تساهلوا مع المسيحييّن من أهلها، حتى أصبحوا نتيجة لهذا التساهُل يشربون الخمر عَلنًا في رمضان، ويَرشُّونها على المسلمين، كما صاروا يُمرّون في الطُرُقات وهم يَحمِلون الصليب، ويُجبرون المسلمين على القيام احترامًا وإجلالا لهم).

وقد أورد ابن العِمَاد في (شَذَرات الذَّهَب) قصيدة مُؤثِّرة لتَقِيّ الدين بن أبي اليَسَر في رثاء بغداد يوم سقوطها في يد التَّتار وفيها قال :  
 
لِســــائلِ الــــدَّمعِ عـــن بغـــداد أَخبـــارُ
فمــا وُقـــوفُك والأحبـــابُ قـــد ســـاروا
يــــا زائــــرين إلـــى الـــزَوْرَاء لا تَفِـــدُوا
فمـــا بــــذاك الحِــــمى والــــدارُ ديّــــارُ
تــاجُ الخِلافَـــة والـــرَّبعُ الـــذي شَــرُفَت
بـــــه المَعـــــالمُ قــــد عفّــــاه إقْفــــارُ
أضْحــى لِعطْــف البِلــى فــي رَبعِـه أَثَـرٌ
وللدمــــــوعِ علـــــــى الآثــــــارِ آثــــــارُ
يــا نــار قلبــي مِــن نــارٍ لحــربِ وَغًــى
شـــبّت عليـــه ووَافـــى الــرَّبْعَ إعصــارُ
علا الصليـــبُ علــــى أعلـــى مَنابِرِهـــا
وقــــام بـــــالأمرِ مَــــن يحويــــه زُنَّــــارُ

لقد كان النصارى في أوروبا يَأمَلون في أن يعتنق المَغول المسيحية، وأن يَتم التحالف بينهم، وأن يُوجِّهوا ضربة قاصمة للإسلام، غير أن هذه الآمال لم تَلبَث أن تبدّدت بفَضل من الله ثم بسبب جهود دولة المَماليك في مصر والشام، وإنزالِ الهزيمة الساحقة بالمَغول في معركة عَيْن جالوتَ (في رمضان سنة 658 ه) فتحطّمت الأُسطورة القائلة : إن المَغول قوة لا تُقهَر.

يرى المؤرخ الأَرْمَني (هيتون) أنَّ السبب في سَير هذه الحملة التي وقعت فيها معركة شَقْحَب كان رغبة قازَان في تحطيم سلطان المسلمين في مصر، واستردادِ الأرض المُقدَّسة، وتسليمِها إلى النصارى، وأنّ قازَان كان يريد السَّير بنفسه على رأس تلك الحملة، ولكنّ تهديد حدوده الشرقية أدى إلى أن يُنيب عنه قَطْلوشَاهْ الذي تعاون مع النصارى ولا سيما الأَرمَن الذين كانوا يُشكّلون قوة كبيرة في جيش قَطْلوشَاه، وقد استَولَوا على عَدد من مدن المسلمين وقَتلوا فيها ومَثّلوا ونَهبوا وفَعلوا الأفاعيل البالغة في الفَظاعة والشَّناعة.



أوائل وقعة شقحب

في ثامن عشر من شعبان، قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأمير سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح، وأيبك الخزندار فقويت القلوب واطمأن كثير من الناس‏.‏
ولكن الناس في جفل [1] عظيم من بلاد حلب وحماه وحمص وتلك النواحي وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهمهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرج يوم الأحد خامس شعبان‏.‏ 

ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيماً، وخافوا خوفاً شديداً، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس‏:‏ لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة‏.‏ وتحدث الناس بالأراجيف فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال‏.‏ ‏وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماه فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء‏:‏ قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً‏.‏ وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى‏:‏ ‏{ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 60‏]‏‏.‏


وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو، فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه‏.‏ فقال الشيخ تقي الدين‏:‏ هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك‏.‏ وكان يقول للناس‏:‏ إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد‏.‏
ولما كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاة، فصار الناس فيهم فريقين فريق يقولون إنما ساروا ليختاروا موضعاً للقتال فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال‏.‏ وقال فريق‏:‏ إنما ساروا لتلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان‏.‏ فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقويت ظنون الناس في هربهم، وقد وصلت التتار إلى قارة‏.‏ وقيل إنهم وصلوا إلى القطيعة، فانزعج الناس لذلك شديداً ولم يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة والبلد وازدحمت المنازل والطرقات، واضطرب الناس وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، فظنوا إنما خرج هارباً فحصل اللوم من بعض الناس وقالوا : أنت منعتنا من الجفل وها أنت هارب من البلد‏؟‏ فلم يرد عليهم وبقي البلد ليس فيه حاكم‏.‏

وجلس اللصوص والحرافيش فيه وفي بساتين الناس يخربون وينتهبون ما قدروا عليه، ويقطعون المشمش قبل أوانه والباقلاء والقمح وسائر الخضراوات‏.‏ وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق إلى الكسوة وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يميناً وشمالاً، وإلى ناحية الكسوة فتارة يقولون ‏:‏ رأينا غبرة فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم، أين ذهبوا‏؟‏ فلا يدرون ما فعل الله بهم، فانقطعت الآمال وألح الناس في الدعاء والابتهال وفي الصلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان‏.‏

وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريباً، ولكن أكثرهم لا يعلمون، كما جاء في حديث أبي رزين ‏:‏ ‏(‏‏(عجب ربك من قنوط عباده وقرب غِيَرِهِ ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب‏)‏‏)‏‏.‏ حسنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى. وفي سنن ابن ماجه عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ"، قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ؟ قَالَ : "نَعَمْ"، قُلْتُ : لَنْ نَعْدِمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا. حسنه الألباني. يقول الشيخ عبد العزيز الراجحي في شرح العقيدة الطحاوية : مذهب أهل السنة في صفات الله تعالى : مذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفات الذات كالسمع والبصر، وإثبات صفات الأفعال كالغضب والرضا والحب والبغض والعداوة والولاية والكلام التي ورد بها الكتاب والسنة على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى يعني يثبتونها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكليف ولا تمثيل.



فلما كان آخر هذا اليوم وصل الأمير فخر الدين إياس المرقبي أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بخير، هو أن السلطان قد وصل وقت اجتمعت العساكر المصرية والشامية، وقد أرسلني أكشف هل طرق البلد أحد من التتر، فوجد الأمر كما يحب لم يطرقها أحد منهم، وذلك أن التتار عرجوا من دمشق إلى ناحية العساكر المصرية، ولم يشتغلوا بالبلد، وقد قالوا إن غَلَبْنَا فإن البلد لنا، وإن غُلِبنا فلا حاجة لنا به‏.‏ ونودي بالبلد في تطييب الخواطر، وأن السلطان قد وصل، فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم، وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي، فإن السماء كانت مغيمة فعلقت القناديل وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في هم شديد وخوف أكيد، لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس‏.‏

فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير سيف الدين غرلو العادلي فاجتمع بنائب القلعة ثم عاد سريعاً إلى العسكر، ولم يدر أحد ما أخبر به، ووقع الناس في الأراجيف والخوض‏.‏



صفة وقعة شقحب

أصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الأمر، فرأوا من المآذن سواداً وغبرة من ناحية العسكر والعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله عز وجل بالدعاء في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الأسطحة وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر، وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظ القلعة‏.‏ والتحرز على الأسوار فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار وكان يوماً مزعجاً هائلاً، وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتر، وخرج الناس إلى ناحية الكسوة فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب، ومعهم رؤوس من رؤوس التتر، وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلاً قليلاً حتى اتضحت جملة، ولكن الناس لما عندهم من شدة الخوف وكثرة التتر لا يصدقون، فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت بشقحب وبالكسوة‏.‏

ثم جاءت بطاقة بعد العصر من نائب السلطان جمال الدين آقوش الأفرم إلى نائب القلعة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلاً ونهاراً وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال، وأنه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك، ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور ونودي بعد الظهر بإخراج الجفال من القلعة لأجل نزول السلطان بها، وشرعوا في الخروج‏.‏ وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر‏.‏ وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنؤه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق فسار إليه فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر‏.‏ فجاء هو وإياه جميعاً فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ ‏:‏ السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال، وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الله لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء‏:‏ قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً‏.‏

وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضاً، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله صلى الله عليه وسلم‏ :‏ إنكم مُصبِّحو عدوِّكم. والفطرُ أقوى لكم، فأفطِروا. رواه مسلم في صحيحه. فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري‏.‏

وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتاً عظيماً، وأمر بجواده فَقُيِّدَ حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ دار السلطان، وثمانية من الأمراء المقدمين معه، وصلاح الدين بن الملك السعيد الكامل بن السعيد بن الصالح إسماعيل، وخلق من كبار الأمراء، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد والمنة‏.‏

فلما جاء الليل لجأ التتر إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل‏.‏ ‏ وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم اقتحم منهم جماعة الهزيمة فنجا منهم قليل، ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة، ولله الحمد والمنة‏.‏

ودخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان وبين يديه الخليفة، وزينت البلد، وفرح كل واحد من أهل الجمعة والسبت والأحد، فنزل السلطان في القصر الأبلق والميدان، ثم تحول إلى القلعة يوم الخميس وصلّى بها الجمعة وخلع على نواب البلاد وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، واستقرت الخواطر، وذهب اليأس وطابت قلوب الناس‏.‏



فوائد من المعركة :

  • الكفر ملة واحدة : تعاون الصليبيين والتتر لحرب المسلمين. وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا سورة البقرة217.
  • لما يعود المسلمون إلى دينهم ينصرهم الله تعالى فالنصر ليس بسبب كثرة العدة، وإن كانت مطلوبة، بل هو من الله لعباده الذين ينصرونه. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) سورة الأنفال. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) سورة محمد.
  • تعاون المسلمين : فقدْ جاء المصريون لنجدة أهل الشام
  • دور العلماء في رد الشبهات وتحفيز الهمم للجهاد في سبيل الله
  • ثبات القائد يبعث الشجاعة في الجند 


[1] أجفل القوم جفلاً: إذا أسرعوا الهرب.



المصادر :

مجلة البحوث الإسلامية : معركة شقحب أو معركة مرج الصفر

ابن كثير : البداية والنهاية معركة شقحب

قصة الإسلام معركة شقحب




مواضيع ذات صلة :


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire