mercredi 5 juin 2013

مكائد الشيطان

بسم الله الرحمن الرحيم
لقد قص الله تعالى علينا في القرآن الكريم ما وقع لأبينا آدم مع إبليس. وقال هذا الأخير بعد أن طرده الله من رحمته :
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) سورة الأعراف.
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) سورة الإسراء.
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) سورة الحجر.

وقد حذرنا الله من كيد الشيطان في مواضع عدة، فقال سبحانه :
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) سورة فاطر.
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) سورة الأعراف.

قال الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه مدارج السالكين، فصل نظر العبد في الذنب :
نظره إلى الآمر له بالمعصية، المزين له فعلها، الحاض له عليها، وهو شيطانه الموكل به. فيفيده النظر إليه وملاحظته، اتخاذه عدوا وكمال الاحتراز منه والتحفظ واليقظة والانتباه لما يريد منه عدوه وهو لا يشعر. فإنه يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات بعضها أصعب من بعض لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها.

العقبة الأولى : عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه وبصفات كماله وبما أخبرت به رسله عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح، فإن اقتحم هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية، وسلم معه نور الإيمان طلبه على :

العقبة الثانية : وهي عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئا. والبدعتان في الغالب متلازمتان، قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى.
ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية لـمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن البدع ستكثر في العصور المتأخرة، وحذرنا منها، وأمرنا أن نثبت أنفسنا، وأن نتمسك بسنته والطريقة التي سار عليها أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود و الترمذي و ابن ماجه، والحديث في مستدرك الحاكم بسند صحيح، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي ؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، زاد النسائي في رواية و ابن أبي عاصم في كتاب السنة : (وكل ضلالة في النار).
وقال أئمتنا: أشنع المعاصي ما لا ترى أنه معصية، وأشنع منه ما ترى أنه طاعة.
وثبت في شرح السنة للبغوي عن سفيان الثوري عليه رحمة الله أنه قال : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ؛ لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها. ولذلك قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية من أوجه كثيرة، أبرزها ثلاثة :
  • أولها : ما تقدم عن سفيان الثوري : أن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها.
  • الأمر الثاني: أن البدعة تناقض السنة وتضادها ؛ لأنه إما أن يستدرك عليها ببدعته فيزعم أن بدعته تتمم، وإما أن يأتي ببدعة يرد بها سنة ثابتة.
  • الأمر الثالث: أنه عندما يبتدع يعادي أهل السنة ويضللهم، ويوقع النزاع في هذه الأمة والشقاق والافتراق، فلذلك كانت البدعة أحب إلى إبليس من المعصية.
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله : إن الذي يتخذ البدعة ديناً لا يمكنه أن يتوب من بدعته، ولا يمكن أن يتوب من معصيته ؛ لأن أول التوبة العلم والشعور بالخطأ، أن يعلم الإنسان أنه فعل منهياً أو ترك أمر إيجاب أو أمر استحباب، وأما إذا ابتدع وهو يرى أنه على هدى، وهو في الحقيقة على ردى فلن يتوب، ولذلك ما دام الإنسان يشعر بأنه مخطئ إذا قصر فهو على خير، إنما البلاء إذا قصر ويشعر أنه محسن وأنه مطيع وأنه صديق مقرب، ولذلك ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال : (من سرته طاعته، وساءته معصيته فهو مؤمن)، والحديث في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير والأوسط بسند صحيح عن أبي أمامة، ورواه الطبراني في المعجم الكبير أيضاً عن علي، ورواه الحاكم والإمام أحمد و البزار و الطبراني بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
نعمة النجاة والسلامة من البدع :
كان أئمتنا يحمدون الله على نجاتهم من العقبة الأولى كما يحمدون الله على نجاتهم من هذه العقبة، بل كانوا يقولون : لا ندري أي نعمتي الله علينا أعظم : كوننا نجونا من الكفر، أو نجونا من البدع؟!
ثبت عن مجاهد وعن أبي العالية عليهما رحمة الله أنهما قالا : ما ندري - كل واحد يقول - أي النعمة عليّ أعظم : أن هداني الله للإسلام وحفظني من الكفر، أو أن هداني للسنة وحفظني من البدعة والأهواء؟! فهذه نعمة عظيمة. فإذا حصلت عند الإنسان فليحمد الله، وكان سلفنا يحذرون منها، ومن الاقتراب ممن يتصف بها كما في تذكرة الحفاظ عن الفضيل بن عياض أنه كان يقول : من جلس إلى مبتدع منعه الله الحكمة. ولما حضرت سليمان التيمي الوفاة بدأ يبكي فقيل له : علام تبكي؟ قال : مررت على مبتدع فسلمت عليه. وقال رجل لأيوب السختياني : قف حتى أكلمك كلمة - والقائل من المبتدعين - فأجابه أيوب : ولا نصف كلمة.

العقبة الثالثة : وهي عقبة الكبائر، فإن ظفر به فيها زينها له وحسنها في عينه وسوف به وفتح له باب الإرجاء وقال له : الإيمان هو نفس التصديق، فلا تقدح فيه الأعمال. وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أهلك بها الخلق وهي قوله : لا يضر مع التوحيد ذنب، كما لا ينفع مع الشرك حسنة.
ثبت في الحلية عن أبي حفص النيسابوري أنه قال : المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت.
ضابط الكبيرة : كل ذنب فيه عقوبة مقدرة في الدنيا، أو فيه وعيد خاص في الآخرة من لعنة أو غضب أو مقت أو عذاب شديد فهو كبيرة. وعليه فالصغيرة كما قال أئمتنا : ما دون الحدين، أي : ما ليس فيه عقوبة مقدرة في الدنيا، ولا وعيد شديد في الآخرة. والله جل وعلا أمر باجتناب الكبائر، وأخبرنا أننا إذا اجتنبناها فإن الصغائر تكفَّر لنا برحمته الواسعة، يقول جل وعلا : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]. أما إذا فعلت الكبائر ولم تتب فأمرك موكول إلى الله، ومن يمت ولم يتب من ذنبه فأمره مفوض إلى ربه. وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا اجتنب الكبائر وفعل الطاعات تكفر عنه السيئات الصغائر الخفيفات، ففي صحيح مسلم وسنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وفي رواية : (كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر). فإن قطع هذه العقبة بعصمة من الله، أو بتوبة نصوح تنجيه منها طلبه على :

العقبة الرابعة : وهي عقبة الصغائر، وقال : ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللمم، أوما علمت بأنها تكفر باجتناب الكبائر وبالحسنات، ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالا منه. فالإصرار على الذنب أقبح منه، ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. وفي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الصغير، ومعجم الطبراني الأوسط والمستدرك بسند حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إياكم ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً، إياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على الرجل حتى تهلكه، ومثل ذلك كمثل قوم نزلوا في فلاة فأرادوا أن ينضجوا خبزهم وطعامهم، فأتى هذا بعود وهذا بعود حتى أججوا ناراً فأنضجوا خبزهم، وكذلك الصغائر تجتمع على الرجل حتى تهلكه).
كم من صغيرة جرت إلى كبيرة، ثم وقع الإنسان في بلية من حيث لا يدري.
نماذج للذنوب الصغائر وخطرها :
النظر المحرم : النظر صغيرة، لكن حاله كما قال أئمتنا : أوله أسف، وآخره تلف. عندما يسرح نظره إلى ما حرم الله يتأسف لأنه ما حصل هذا، وعندما يخلو بنفسه يتحرق قلبه ويتلف من حيث لا يدري. وصدق القائل :
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتـر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على خطر
يسرُّ مقلته ما ضرّ مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

خطر الخلوة بالنساء : ذكر ابن سعد في الطبقات عن أبي موسى الأشعري قال: والله لأن يمتلئ منخري من ريح جيفة أحب إلي من أن يمتلئ من ريح امرأة. وفي سنن الدارمي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرَمَ دِينُهُ ، فَلَا يَدْخُلْ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَا يَخْلُوَنَّ بِالنِّسْوَانِ وَلَا يُخَاصِمَنَّ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ". يقول سعيد بن المسيب كما في حلية الأولياء : ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من قبل النساء. وكان يقول : بلغت أربعاً وثمانين سنة، وإحدى عيني لا أبصر بها، والأخرى أعشو بها، ووالله لا شيء أخافه في المدينة إلا النساء.

العقبة الخامسة : وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها ، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات وعن الاجتهاد في التزود لمعاده. ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم من ترك السنن إلى ترك الواجبات. وأقل ما ينال منه تفويته الأرباح والمكاسب العظيمة والمنازل العالية. ولو عرف السعر لما فوت على نفسه شيئا من القربات ولكنه جاهل بالسعر.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن أكثر الناس يضيعون أوقاتهم فيما لا ينفعهم. ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري وسنن الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)، أي : خاسر مضيع مفرط، (الصحة والفراغ)، فأنت نحو صحتك وفراغك إما أن تكون مغبوطاً، وإما أن تكون مغبوناً. فحذار من وساوس الشيطان في تضييع أيام الزمان بلا فائدة، فأنت خلقت لأمر عظيم : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. ولذلك كان أئمتنا يحذرون من هذا، ويحذرون من الفضول ومن ضياع الوقت وفيما لا ينفع. يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر : رأيت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان، وكان القدماء يحذرون من ذلك، قال الفضيل‏ :‏ أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة‏.‏ ودخلوا على رجل من السلف فقالوا‏ :‏ لعلنا شغلناك فقال‏ :‏ أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم‏.‏
فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة ونور هاد ، ومعرفة بقدر الطاعات والاستكثار منها ، وقلة المقام على الميناء ، وخطر التجارة ، وكرم المشتري ، وقدر ما يعوض به التجار ، فبخل بأوقاته ، وضن بأنفاسه أن تذهب في غير ربح ، طلبه العدو على :

العقبة السادسة : وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات فأمره بها وحسنها في عينه وزينها له وأراه ما فيها من الفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسبا وربحا، لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل وبالمرجوح عن الراجح وبالمحبوب لله عن الأحب إليه.
ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول.
فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله ومنازلها في الفضل ومعرفة مقاديرها والتمييز بين عاليها وسافلها ومفضولها وفاضلها ورئيسها ومرؤوسها وسيدها ومسودها، فإن في الأعمال والأقوال سيدا ومسودا، ورئيسا ومرؤوسا ، وذروة وما دونها ، وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث في صحيح البخاري وغيره عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (سيد الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. قال : ومن قالها من النهار موقنا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة).
ذكر لابن رجب في جامع العلوم والحكم أن الحسن البصري بعث قومًا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم مروا بثابت البناني فخذوه معكم فأتوا ثابتا فقال أنا معتكف فرجعوا إلى الحسن فأخبروه فقال قولوا : يا أعمش أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة؟ فرجعوا إلى ثابت فترك اعتكافه وذهب معهم.
فإذا نجا منها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لا بد منها ، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه ، وأكرم الخلق عليه ، وهي :

عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير. فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورجله وظاهر عليه بجنده وسلط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط. وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها، فإنه كلما جد في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره، جد العدو في إغراء السفهاء به. فهو في هذه العقبة قد لبس لأمة الحرب وأخذ في محاربة العدو لله وبالله، فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين ؛ وهي تسمى عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له. وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه :
أحدها : قوله : ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة. سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغما يراغم به عدو الله وعدوه، والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته. كما قال تعالى : ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين. وقال تعالى في مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه : ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار. فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له. فموافقته فيها من كمال العبودية. وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته سجدتين، وقال :إذا شَكَّ أحدُكُم في صلاتِهِ فلم يَدرِ كَم صلَّى : ثلاثًا أمْ أربعًا؟ فليطرَحِ الشَّكَّ وليبنِ على ما استيقنَ. ثمَّ يسجُدُ سجدتينِ قبلَ أن يسلِّمَ. فإن كانَ صلَّى خَمسًا، شفَعنَ لَه صلاتَه، وإن كانَ صلَّى إتمامًا لأربعٍ، كانتَا تَرغيمًا للشَّيطانِ. رواه مسلم.
فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر. وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة. ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين والخيلاء والتبختر عند صدقة السر، حيث لا يراه إلا الله لما في ذلك من إرغام العدو، وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عز وجل. وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس، ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول. وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصاحب هذا المقام إذا نظر إلى الشيطان ولاحظه في الذنب، راغمه بالتوبة النصوح، فأحدثت له هذه المراغمة عبودية أخرى.
ولله الحمد والمنة ، وبه التوفيق.

المصادر :

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire