mercredi 15 mai 2013

من عوامل سقوط العباسيين

خريطة الدولة العباسيةمن أعرق الصفحات التي قدمناها للحضارة الإنسانية، وللتاريخ البشري صفحة الدولة العباسية‏.‏. خمسة قرون وأكثر ‏(132هـ - 656هـ‏)‏ مرت على التاريخ البشري، وهو يحني جبهته لهذه الدولة‏.‏
وبالطبع.. فليس من خصائص المسيرة البشرية أن تظل على وتيرة واحدة، وهكذا كان شأن الدولة العباسية في مسيرتها، يتعاورها المد والجزر، واختلف عليها الحماة بين أتراك وبويهيين وأتراك سلاجقة، لكنها بقيت مع ذلك رمز الهيبة التاريخية التي تفرض نفسها على كل القوى، مستمدة هذه الهيبة من رصيد الخلافة الإسلامية التي مثَّلتْ وحدة الوجود الإسلامي إلى فترة قريبة من عمر التاريخ.‏
كان قيام هذه الدولة حركة سياسية قامت على تخطيط، لعله لم يتوفر للمسلمين في كل تاريخهم.. دقة وعمقًا، وصبرًا على النتائج، واستغلالاً لكل القوى وسرية، وتوافر كل مقومات النجاح.‏
ثم كان السير التاريخي لهذه الدولة معجزة عجيبة؛ فوسط بحار متلاطمة الأمواج، وعالم إسلامي فسيح لا يمكن، بل يتعذر استمرار تماسكه.. وأعداء خارجيين من عناصر متباينة المذاهب والجنس والميول.‏
وسط هذا كله شقت الدولة طريقها.. ولا شك في أنها كانت بين الحين والحين تتعرض لحركة تفكك من هنا، وحركة تمرد من هناك، وبروز لحركة خروج في ناحية ثالثة، وغلبة عنصر من العناصر في مكان رابع.‏
ولكن مهما يكن.. فهذه هي طبيعة المسيرة البشرية، ولم يقدم لنا التاريخ -على كثرة ما قدم- مدينة فاضلة خلتْ من كل النوازع البشرية، وخلت من الصراع.. والمد والجزر‏!‏‏!‏
وعبر القرون الخمسة تقلب في الحكم عشرات من الحكام، بلغوا سبعًا وثلاثين خليفة، أوَّلهم أبو العباس السفاح ثم أبو جعفر المنصور.. وقد برز منهم كثيرون كالمأمون، والرشيد، والمعتصم، والواثق، والمتوكل، والمهدي.‏
وكان آخرهم ومن أشأمهم أبو أحمد المستعصم الذي استسلم للتتار.‏
وظهرت أسر قوية وعناصر كبيرة سيطرت على الدولة أحيانًا، كالبرامكة وبني بويه والسلاجقة.‏
وتمتعت دول كثيرة بالاستقلال الفعلي عن الدولة كالطولونيين والإخشيديين في مصر، وبني طاهر في خراسان، وبني سامان في فارس وما وراء النهر، والغزنويين في أفغانستان والبنجاب والهند، وبني بويه الذين لم يستقلوا وحسب، بل تحكموا في الخلفاء أنفسهم في شيراز في فارس.. ثم السلاجقة.‏
وهكذا كما ذكرنا تعاورت كل ظروف المسيرة التاريخية هذه الدولة ذات القرون الخمسة.‏
وخلال رحلة الدولة العباسية الطويلة في التاريخ، لم يجد المؤرخون بدًّا من تقسيم هذه الدولة إلى عصور ثلاثة:‏ العصر الأول ‏(‏132هـ - 232هـ‏)‏ وفيه كانت السلطة للخلفاء ما عدا المغرب والأندلس.‏ والعصر الثاني ‏(‏232هـ - 590هـ‏)‏ وفيه ضاعت السلطة من الخلفاء لتكون في يد الأتراك والبويهيين. والعصر الثالث ‏(‏590هـ - 656هـ‏)‏ وفيه عادت السلطة إلى أيدي الخلفاء في حدود بغداد وما حولها، دون بقية أملاك الخلافة التي سطا عليها الطامعون.‏
وفي مثل دولة جامعة كبيرة ذات حياة حافلة كالدولة العباسية يصعب الوصول إلى رأي أخيرٍ في أسباب انحلالها..
أكانت حركات الانشقاق عن الدولة سبب هذا الانحلال‏؟‏
لا،‏ إن حركات الانشقاق هذه ظاهرة أو نتيجة من نتائج بروز عوامل الانحلال‏.‏
أكان ظهور أو تحكم عناصر غير عربية في الحكم من أسباب هذا الانحلال؟
لا، فهذه العناصر قد وجدت في حضارات كثيرة، وأين هي الدولة التي تخلو من خدمات عناصر ليست منها‏؟‏ ثم إن هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا في ظل مظاهر الانحلال الحقيقية، وأدى معظمهم خدمات للدولة كانت سببًا من أسباب بقائها وصمودها.‏
أكان ظهور حركات التمرد الديني كالقرامطة والحشاشين وغيرهم هو السبب الأقوى في تحلُّل الدولة‏؟‏
ومما لا شك فيه أن لهذه الحركات أثرها الكبير في ضياع ‏"‏الوحدة العقائدية ‏"‏، وفي ضياع كثيرٍ من مُثُل الإسلام الصافية خلال هذه العصور.. وفي خلق جوٍّ من الفوضى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية. لكن مع ذلك، وإن كان هذا سببًا قويًّا، فليس هو السبب الأقوى في سقوط الدولة العباسية.‏. فما هي إذن عوامل تحلُّل الدولة العباسية ودخولها في طور الاضمحلال‏؟‏
لا شك في أن العوامل السابقة وغيرها، كان لها تأثيرها الكبير في اضمحلال الدولة العباسية، وفي دخولها مرحلة الأفول.‏
الجهاد في سبيل اللهبَيْدَ أن أخطر العوامل التي أسقطت خلافة العباسيين، إهمالهم لركن مهم من أركان الإسلام.. وهو ‏"‏الجهاد‏"‏؛ فبعد المعتصم المتولي أمور الدولة سنة ‏(218هـ/ ‏833م)‏ لم نسمع عن معارك ذات شأن قامت بها الدولة، ولم يكن مبدأ ‏"‏الجهاد الدائم‏"‏ -حمايةً لهذه الدولة المترامية الأطراف- أحدَ أركان السياسة العباسية.‏
لقد تقوقعوا في مشاكل الدولة الداخلية.. فحصرتهم مشاكلها.. وماتوا ببطء، ولو أنهم وجَّهوا طاقة الأمة نحو ‏"‏الجهاد‏"‏ ضد الصليبيين، لتغيَّر أمر الحركات الهدَّامة التي قدر لها أن تظهر وتنتشر؛ وذلك أن هذه الحركات لا تنتشر إلا في جو مليء بالركود والفساد، والمناخ الوحيد الصالح للقضاء عليها هو المناخ القتالي الذي يكشف المعادن النقية ويذيب المعدن الرخيص.‏
لقد كانت الحاجة الإسلامية ملحة في ضرورة رفع راية الجهاد، وكانت الدولة الإسلامية التي تعرضت للانشقاق والتمزق تحتاج إلى هذا الصمام ليحميها من جو السكون والاستسلام.‏
لكن العباسيين غزوا في عقر دارهم.. فذلوا، ولم يرفعوا راية الجهاد ضد العدو الخارجي.. فارتفعت رايات العصيان الداخلي.‏
وكان بإمكانهم أن يشغلوا الأجناس المختلفة التي ضمتها الدولة في هذه الحروب الجهادية المستمرة ضد الغزاة والوثنيات المختلفة.. لكنهم لم يفعلوا، فتحركت النعرات القومية الجاهلية لتفتِّت الدولة، وتقسِّم جسمها تحت رايات مختلفة، ليست لها بالإسلام أو الجهاد صلة.‏
وفي سنة (656هـ/ 1258م) كان هولاكو حفيد جنكيز خان يؤدِّب الذين اتجهوا إلى كل الطرق إلا طريق الجهاد.. وحاولوا العلاج بكل الوسائل إلا الوسيلة الإسلامية القوية الخالدة.‏
وقد هاجم هولاكو بغداد وهدم أسوارها، وأعمل المنجنيق فيها، وحصد بغداد، حتى لم يعد ممكنًا الإقامة فيها لشدة روائحها المنفرة، وعندما خرج الخليفة المستعصم إليه مستسلمًا بصحبة ثلاثمائة من أصحابه وقضاته دون شرط، أمر هولاكو بقتلهم جميعًا، وطُويت صفحة الخلافة العباسية.‏
ذلك أن أسلوب الأحلام الرومانتيكية الساذجة ليس وسيلة البقاء أو تشييد الحضارات.. فالذين لا يملكون إرادة الهجوم، يفقدون القدرة على الدفاع‏!‏‏!‏
د. عبد الحليم عويس
المصدر: كتاب دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية للدكتور عبد الحليم عويس.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire