lundi 27 mai 2013

حقائق التوبة وعلامة قبولها


قال صاحب المنازل : وحقائق التوبة ثلاثة أشياء : تعظيم الجناية ، واتهام التوبة ، وطلب أعذار الخليقة . يريد بالحقائق : ما يتحقق به الشيء ، وتتبين به صحته وثبوته ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحارثة إن لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟
ذكرت هذه الجملة في هاته القصة : جاء حارثةُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ كيفَ أصبحتَ يا حارثةُ قال أصبحت يا رسولَ اللهِ مؤمنًا حقًّا قال يا حارثةُ إن لكلِّ حقٍّ حقيقةً فما حقيقةُ إيمانِك قال عزفَت نفسي عن الدُّنيا فأسهرتُ ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظرُ إلى ربِّي عزَّ وجلَّ على عرشِه بارزًا وكأني أنظرُ إلى أهلِ الجنةِ في الجنةِ يتنعمون وأهلِ النارِ في النارِ يُعذبون فقال له يا حارثةُ عرفت فالزمْ ثم قال مَن أحبَّ أن ينظرَ إلى عبدٍ قد نوَّرَ الإيمانُ في قلبِه فلينظرْ إلى حارثةَ. حديث ضعفه أهل العلم. انظر الدرر السنية. فأما تعظيم الجناية فإنه إذا استهان بها لم يندم عليها ، وعلى قدر تعظيمها يكون ندمه على ارتكابها ، فإن من استهان بإضاعة فلس - مثلا - لم يندم على إضاعته ، فإذا علم أنه دينار اشتد ندمه ، وعظمت إضاعته عنده . وتعظيم الجناية يصدر عن ثلاثة أشياء : تعظيم الأمر ، وتعظيم الآمر ، والتصديق بالجزاء . وأما اتهام التوبة فلأنها حق عليه ، لا يتيقن أنه أدى هذا الحق على الوجه المطلوب منه ، الذي ينبغي له أن يؤديه عليه ، فيخاف أنه ما وفاها حقها ، وأنها لم تقبل منه ، وأنه لم يبذل جهده في صحتها ، وأنها توبة علة وهو لا يشعر بها ، كتوبة أرباب الحوائج والإفلاس ، والمحافظين على حاجاتهم ومنازلهم بين الناس ، أو أنه تاب محافظة على حاله ، فتاب للحال لا خوفا من ذي الجلال ، أو أنه تاب طلبا للراحة من الكد في تحصيل الذنب ، أو اتقاء ما يخافه على عرضه وماله ومنصبه ، أو لضعف داعي المعصية في قلبه ، وخمود نار شهوته ، أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من العلم والرزق ، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة خوفا من الله ، وتعظيما له ولحرماته ، وإجلالا له ، وخشية من سقوط المنزلة عنده ، وعن البعد والطرد عنه ، والحجاب عن رؤية وجهه في الدار الآخرة ، فهذه التوبة لون ، وتوبة أصحاب العلل لون . ومن اتهام التوبة أيضا : ضعف العزيمة ، والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة ، وتذكر حلاوة مواقعته ، فربما تنفس ، وربما هاج هائجه . ومن اتهام التوبة : طمأنينته ووثوقه من نفسه بأنه قد تاب ، حتى كأنه قد أعطي منشورا بالأمان ، فهذا من علامات التهمة . ومن علاماتها : جمود العين ، واستمرار الغفلة ، وأن لا يستحدث بعد التوبة أعمالا صالحة لم تكن له قبل الخطيئة . فالتوبة المقبولة الصحيحة لها علامات : منها : أن يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبلها . ومنها : أنه لا يزال الخوف مصاحبا له لا يأمن مكر الله طرفة عين ، فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه : أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. فهناك يزول الخوف . ومنها : انخلاع قلبه ، وتقطعه ندما وخوفا ، وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها ، وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى : لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم. قال : تقطعها بالتوبة ، ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه ، وهذا هو تقطعه ، وهذا حقيقة التوبة ، لأنه يتقطع قلبه حسرة على ما فرط منه ، وخوفا من سوء عاقبته ، فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفا ، تقطع في الآخرة إذا حقت الحقائق ، وعاين ثواب المطيعين ، وعقاب العاصين ، فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة . ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضا : كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء ، ولا تكون لغير المذنب ، لا تحصل بجوع ، ولا رياضة ، ولا حب مجرد ، وإنما هي أمر وراء هذا كله ، تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة ، قد أحاطت به من جميع جهاته ، وألقته بين يدي ربه طريحا ذليلا خاشعا ، كحال عبد جان آبق من سيده ، فأخذ فأحضر بين يديه ، ولم يجد من ينجيه من سطوته ، ولم يجد منه بدا ولا عنه غناء ، ولا منه مهربا ، وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه ، وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته ، هذا مع حبه لسيده ، وشدة حاجته إليه ، وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده ، وذله وعز سيده . فيجتمع من هذه الأحوال كسرة وذلة وخضوع ، ما أنفعها للعبد وما أجدى عائدتها عليه ! وما أعظم جبره بها ، وما أقربه بها من سيده ! فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة ، والخضوع والتذلل ، والإخبات ، والانطراح بين يديه ، والاستسلام له ، فلله ما أحلى قوله في هذه الحال : أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني ، أسألك بقوتك وضعفي ، وبغناك عني وفقري إليك ، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير ، وليس لي سيد سواك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، سؤال من خضعت لك رقبته ، ورغم لك أنفه ، وفاضت لك عيناه ، وذل لك قلبه .
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره     لا يجبر الناس عظما أنت كاسره
ولا يهيضون عظما أنت جابره
فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة ، فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتهم توبته وليرجع إلى تصحيحها ، فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة ، وما أسهلها باللسان والدعوى ! وما عالج الصادق بشيء أشق عليه من التوبة الخالصة الصادقة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها ، ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها ، فعندهم - من الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم ، وصولة طاعاتهم ، ومنتهم على الخلق بلسان الحال ، واقتضاء بواطنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعاتهم ، اقتضاء لا يخفى على أحد غيرهم ، وتوابع ذلك - ما هو أبغض إلى الله ، وأبعد لهم عن بابه من كبائر أولئك ، فإن تدارك الله أحدهم بقاذورة أو كبيرة يوقعه فيها ليكسر بها نفسه ، ويعرفه قدره ، ويذله بها ، ويخرج بها صولة الطاعة من قلبه ، فهي رحمة في حقه ، كما أنه إذا تدارك أصحاب الكبائر بتوبة نصوح ، وإقبال بقلوبهم إليه ، فهو رحمة في حقهم ، وإلا فكلاهما على خطر .

وأما طلب أعذار الخليقة ، فهذا له وجهان : وجه محمود ، ووجه مذموم حرام . فالمذموم : أن تطلب أعذارهم ، نظرا إلى الحكم القدري ، وجريانه عليهم ، شاءوا أم أبوا ، فتعذرهم بالقدر . وهذا القدر ينتهي إليه كثير من السالكين ، والناظرين إلى القدر ، الفانين في شهوده ، وهو درب خطر جدا ، قليل المنفعة ، لا ينجي وحده .وهذا الشهود شهود ناقص مذموم ، إن طرده صاحبه ، فعذر أعداء الله ، وأهل مخالفته ومخالفة رسله ، وطلب أعذارهم كان مضادا لله في أمره ، عاذرا من لم يعذره الله ، طالبا عذر من لامه الله وأمر بلومه ، وليست هذه موافقة لله ، بل موافقته لوم هذا ، واعتقاد أنه لا عذر له عند الله ، ولا في نفس الأمر ، فالله عز وجل قد أعذر إليه ، وأزال عذره بالكلية ، ولو كان معذورا في نفس الأمر عند الله لما عاقبه البتة ، فإن الله عز وجل أرحم وأغنى وأعدل من أن يعاقب صاحب عذر ، فلا أحد أحب إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب ، إزالة لأعذار خلقه ، لئلا يكون لهم عليه حجة . ومعلوم أن طالب عذرهم ومصححه مقيم لحجة قد أبطلها الله من جميع الوجوه ، فلله الحجة البالغة ، ومن له عذر من خلقه - كالطفل الذي لا يميز ، والمعتوه ، ومن لم تبلغه الدعوة ، والأصم الأعمى الذي لا يبصر ولا يسمع - فإن الله لا يعذب هؤلاء بلا ذنب البتة ، وله فيهم حكم آخر في المعاد ، يمتحنهم بأن يرسل إليهم رسولا يأمرهم وينهاهم ، فمن أطاع الرسول منهم ، أدخله الجنة ، ومن عصاه أدخله النار ، حكى ذلك أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والحديث في مقالاته ، وفيه عدة أحاديث بعضها في مسند أحمد ، كحديث الأسود بن سريع ، وحديث أبي هريرة . ومن طعن في هذه الأحاديث بأن الآخرة دار جزاء لا دار تكليف فهذه الأحاديث مخالفة للعقل ، فهو جاهل ، فإن التكليف إنما ينقطع بدخول دار القرار ، الجنة أو النار ، وإلا فالتكليف واقع في البرزخ وفي العرصات ، ولهذا يدعوهم إلى السجود له في الموقف ، فيسجد المؤمنون له طوعا واختيارا ، ويحال بين الكفار والمنافقين وبين السجود . (انظر تفسير ابن كثير لقوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). والمقصود : أنه لا عذر لأحد البتة في معصية الله ، ومخالفة أمره ، مع علمه بذلك ، وتمكنه من الفعل والترك ، ولو كان له عذر لما استحق العقوبة واللوم ، لا في الدنيا ولا في العقبى . فإن قيل : هذا كلام بلسان الحال بالشرع ، ولو نطقت بلسان الحقيقة ، لعذرت الخليقة ، إذ هم صائرون إلى مشيئة الله فيهم ، وما قضاه وقدره عليهم ولا بد ، فهم مجار لأقداره ، وسهامها نافذة فيهم ، وهم أغراض لسهام الأقدار لا تخطئهم البتة ، ولكن من غلب عليه مشاهدة الحكم الشرعي لم يمكنه طلب العذر لهم ، ومن غلب عليه مشاهدة الحكم الكوني عذرهم ، فأنت معذور في الإنكار علينا بحقيقة الشرع ، ونحن معذورون في طلب العذر بحقيقة الحكم ، وكلانا مصيب . فالجواب من وجوه : أحدها : أن يقال : العذر إن لم يكن مقبولا لم يكن نافعا ، والاعتذار بالقدر غير مقبول ، ولا يعذر أحد به ، ولو اعتذر فهو كلام باطل لا يفيد شيئا البتة ، بل يزيد في ذنب الجاني ، ويغضب الرب عليه ، وما هذا شأنه لا يشتغل به عاقل . الثاني : أن الاعتذار بالقدر يتضمن تنزيه الجاني نفسه ، وتنزيه ساحته ، وهو الظالم الجاهل.
ولخصماء الله تظلمات وشكايات ، ولو فتشوا زوايا قلوبهم لوجدوا هناك خصما متظلما شاكيا عاتبا ، يقول : لا أقدر أن أقول شيئا ، وإني مظلوم في صورة ظالم ، ويقول بحرقة ويتنفس الصعداء : مسكين ابن آدم ، لا قادر ولا معذور .وقال الآخر : ابن آدم كرة تحت صولجانات الأقدار ، يضربها واحد ، ويردها الآخر ، وهل تستطيع الكرة الانتصاف من الصولجان ؟ .
ومن له أدنى فهم وبصيرة يعلم أن هذا كله تظلم وشكاية وعتب ، ويكاد أحدهم يقول : يا ظالمي لولا. ولو فتش نفسه كما ينبغي لوجد ذلك فيها ، وهذا ما لا غاية بعده من الجهل والظلم ، والإنسان كما قال الله تعالى : إنه كان ظلوما جهولا ، والله هو الغني الحميد . ولو علم هذا الظالم الجاهل أن بلاءه من نفسه ومصابه منها ، وأنها أولى بكل ذم وظلم ، وأنها مأوى كل سوء ، و إن الإنسان لربه لكنود ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : كفور جحود لنعم الله ، وقال الحسن : هو الذي يعد المصائب ، وينسى النعم ، وقال أبو عبيدة : هو قليل الخير ، والأرض الكنود التي لا نبت بها ، وقيل : التي لا تنبت شيئا من المنافع ، وقال الفضل بن عباس : الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان . ولو علم هذا الظالم الجاهل أنه هو القاعد على طريق مصالحه يقطعها عن الوصول إليه ، فهو الحجر في طريق الماء الذي به حياته ، وهو السكر الذي قد سد مجرى الماء إلى بستان قلبه ، ويستغيث مع ذلك : العطش العطش ، وقد وقف في طريق الماء ، ومنع وصوله إليه ، فهو حجاب قلبه عن سر غيبه ، وهو الغيم المانع لإشراق شمس الهدى على القلب ، فما عليه أضر منه ، ولا له أعداء أبلغ في نكايته وعداوته منه .
ما تبلغ الأعداء من جاهل     ما يبلغ الجاهل من نفسه
فتبا له ظالما في صورة مظلوم ، وشاكيا والجناية منه ، قد جد في الإعراض وهو ينادي : طردوني وأبعدوني ، ولى ظهره الباب ، بل أغلقه على نفسه وأضاع مفاتيحه وكسرها. يأخذ الشفيق بحجزته عن النار ، وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه ويقتحمها ، ويستغيث : ما حيلتي ؟ وقد قدموني إلى الحفيرة وقذفوني فيها. والله كم صاح به الناصح : الحذر الحذر ، إياك إياك ، وكم أمسك بثوبه ، وكم أراه مصارع المقتحمين وهو يأبى إلا الاقتحام. يا ويله ظهيرا للشيطان على ربه ، خصما لله مع نفسه ، جبري المعاصي ، قدري الطاعات ، عاجز الرأي ، مضياع لفرصته ، قاعد عن مصالحه ، معاتب لأقدار ربه ، يحتج على ربه بما لا يقبله من عبده وامرأته وأمته إذا احتجوا به عليه في التهاون في بعض أمره ، فلو أمر أحدهم بأمر ففرط فيه ، أو نهاه عن شيء فارتكبه ، وقال : القدر ساقني إلى ذلك ، لما قبل منه هذه الحجة ، ولبادر إلى عقوبته .فإن كان القدر حجة لك أيها الظالم الجاهل في ترك حق ربك ، فهلا كان حجة لعبدك وأمتك في ترك بعض حقك ؟ بل إذا أساء إليك مسيء ، وجنى عليك جان ، واحتج بالقدر لاشتد غضبك عليه ، وتضاعف جرمه عندك ، ورأيت حجته داحضة ، ثم تحتج على ربك به ، وتراه عذرا لنفسك ؟ ! فمن أولى بالظلم والجهل ممن هذه حاله ؟
هذا مع تواتر إحسان الله إليك على مدى الأنفاس ، أزاح عللك ، ومكنك من التزود إلى جنته ، وبعث إليك الدليل ، وأعطاك مؤنة السفر وما تتزود به ، وما تحارب به قطاع الطريق عليك ، فأعطاك السمع والبصر والفؤاد ، وعرفك الخير والشر ، والنافع والضار ، وأرسل إليك رسوله ، وأنزل إليك كتابه ، ويسره للذكر والفهم والعمل ، وأعانك بمدد من جنده الكرام ، يثبتونك ويحرسونك ، ويحاربون عدوك ويطردونه عنك ، ويريدون منك أن لا تميل إليه ولا تصالحه ، وهم يكفونك مؤنته ، وأنت تأبى إلا مظاهرته عليهم ، وموالاته دونهم ، بل تظاهره وتواليه دون وليك الحق الذي هو أولى بك ، قال الله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا. طرد إبليس عن سمائه ، وأخرجه من جنته ، وأبعده من قربه ، إذ لم يسجد لك ، وأنت في صلب أبيك آدم ، لكرامتك عليه ، فعاداه وأبعده ، ثم واليت عدوه ، ومِلْتَ إليه وصالحته ، وتتظلم مع ذلك ، وتشتكي الطرد والإبعاد
المعنى الثاني : أن يكون مراده إقامة أعذارهم في إساءتهم إليك ، وجنايتهم عليك ، والنظر في ذلك إلى الأقدار ، فتعذرهم بالقدر في حقك ، لا في حق ربك ، فهذا حق ، وهو من شأن سادات العارفين ، وخواص أولياء الله الكُمَّل ، يفنى أحدهم عن حقه ، ويستوفي حق ربه ، ينظر في التفريط في حقه ، وفي الجناية عليه إلى القدَر ، وينظر في حق الله إلى الأمر ، فيطلب لهم العذر في حقه ، ويمحو عنهم العذر ويطلبه في حق الله . وهذه كانت حال نبينا صلى الله عليه وسلم ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : ما خُيِّرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينَ أمرينِ إلا أخَذَ أيسَرَهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعدَ الناسِ منه، وما انتقمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنفْسِه إلا أن تُنتَهكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنتَقِمَ للهِ بها. صحيح البخاري
وقالت عائشة رضي الله عنها أيضا : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا ضرب خادما ولا امرأة. صححه الألباني في مختصر الشمائل الصفحة أو الرقم: 299وقال أنس رضي الله عنه : خدمتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأنا ابن ثمانِ سنينَ، خدمتُه عشرَ سنين، فما لامني على شيءٍ قطُّ أتي فيه على يدي، فإن لامني لائمٌ من أهله ؛ قال : دعوه ؛ فإنه لو قضي شيءٌ كان . صححه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح الصفحة أو الرقم: 5756فانظر إلى نظره إلى القدر عند حقه ، وقيامه بالأمر.

وقطع يد المرأة عند حق الله ، ولم يقل هناك : القدر حكم عليها . وذلك أنَّ امرأةً سرقت في عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في غزوةِ الفتحِ، ففزع قومُها إلى أسامةَ بنِ زيدٍ يستشفعونه . قال عروةُ : فلما كلمه أسامةُ فيها تلوَّن وجهُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال : ( أتكلِّمُني في حدٍّ من حدودِ اللهِ ) . قال أسامة : استغفرْ لي يا رسولَ اللهِ، فلما كان العشيُّ قام رسولُ اللهِ خطيبًا، فأثنى على اللهِ بما هو أهله، ثم قال : ( أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلَكم : أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها ) . ثم أمر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بتلك المرأةِ فقُطعت يدُها، فحسنت توبتُها بعد ذلك وتزوجت، قالت عائشةُ : فكانت تأتي بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. صحيح البخاري
وكذلك رجمه المرأة والرجل لما زنيا ، ولم يحتجَّ في ذلك لهما بالقدر . وذلك أنَّ ماعزَ بنَ مالكٍ الأسلميَّ أتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال : يا رسولَ اللهِ ! إني قد ظلمتُ نفسي وزنيتُ وإني أُريدُ أن تُطهِّرَني . فردَّه . فلما كان من الغدِ أتاهُ فقال : يا رسولَ اللهِ ! إني قد زنيتُ . فردَّهُ الثانيةَ . فأرسل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى قومِه فقال ( أتعلمونَ بعقلِه بأسًا تُنكرونَ منهُ شيئًا ؟ ) فقالوا : ما نعلمُه إلا وَفِيَّ العقلِ . من صالحينا . فيما نرى . فأتاهُ الثالثةَ . فأرسل إليهم أيضًا فسأل عنهُ فأخبروهُ : أنَّهُ لا بأسَ بهِ ولا بعقلِه . فلما كان الرابعةَ حفرَ لهُ حفرةً ثم أمرَ بهِ فرُجِمَ . قال : فجاءتِ الغامديةُ فقالت : يا رسولَ اللهِ ! إني قد زنيتُ فطهِّرْني . وإنَّهُ ردَّها . فلما كان الغدُ قالت : يا رسولَ اللهِ ! لم تردَّني ؟ لعلك أن تردَّني كما رددتَ ماعزًا . فواللهِ ! إني لحبلى . قال ( إما لا ، فاذهبي حتى تَلِدِي ) فلما ولدت أتتْهُ بالصبيِّ في خرقةٍ . قالت : هذا قد ولدتُه . قال ( اذهبي فأرضعِيهِ حتى تفطُمِيهِ ) . فلما فطمَتْهُ أتتْهُ بالصبيِّ في يدِه كسرةُ خبزٍ . فقالت : هذا ، يا نبيَّ اللهِ ! قد فطمتُه ، وقد أكل الطعامَ . فدفع الصبيَّ إلى رجلٍ من المسلمين . ثم أمر بها فحُفِرَ لها إلى صدرها . وأمر الناسَ فرجمُوها . فيُقْبِلُ خالدُ بنُ الوليدِ بحجرٍ . فرمى رأسها . فتنَضَّحَ الدمُ على وجهِ خالدٍ . فسبَّها . فسمع نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سبَّهُ إياها . فقال ( مهلًا ! يا خالدُ ! فوالذي نفسي بيدِه ! لقد تابت توبةً ، لو تابها صاحبُ مُكْسٍ لغُفِرَ لهُ ) . ثم أمر بها فصلى عليها ودُفِنَتْ. صحيح مسلم
وكذلك فعله في العرنيين الذين قتلوا راعيه ، واستاقوا الذود ، وكفروا بعد إسلامهم ، ولم يقل : قدر عليهم ، بل أمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمرت أعينهم ، وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون ، حتى ماتوا عطشا. قَدِمَ أناسٌ من عُكْلٍ أو عُرَيْنَةَ ، فاجْتَوَوْا المدينةَ ، فأمرهم النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلِقاحٍ ، وأن يشرَبوا من أبْوالِها وألْبانِها ، فانطلقوا ، فلما صَحُّوا، قتلوا راعيَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، واسْتاقُوا النَّعَمَ ، فجاء الخبرُ في أوَّلِ النهارِ ، فبعثَ في آثارِهم ، فلما ارتفعَ النهارُ جِيءَ بِهم ، فأمرَ فقطعَ أيْدِيَهمْ وأرْجُلَهمْ، وسُمِرَتْ أعْيُنُهمْ، وأُلْقُوا في الحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ فلا يُسْقَوْنَ . قال أبو قُلْابة : فهؤلاءِ سرَقوا وقتَلوا ، وكفَروا بعدَ إيمانِهم ، وحارَبوا اللهَ ورسولهُ . متفق عليه واللفظ للبخاري.
إلى غير ذلك مما يطول بسطه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف بالله وبحقه من أن يحتجَّ بالقدر على ترك أمره ، ويقبل الاحتجاج به من أحد ، ومع هذا فعذر أنسا بالقدر في حقه ، وقال : لو قضي شيءٌ كان. فصلوات الله وسلامه عليه .

مقتبس من : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين حقائق التوبة وعلامة قبولها

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire